بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب بلوغ المرام
كتاب الطهارة
الحديث رقم 16
وعن أبي هريرة – رضي الله عنهما – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه، ثم لينزعه، فإن في أحد جناحيه داء، وفي الآخر شفاء ". أخرجه البخاري وأبو داود، وزاد: إنه يتقي بجناحه الذي فيه الداء.
فوائد الحديث
الفائدة الأولى:بيان طرق الحديث.
هذا حديث صحيح لا مجال للتشكيك فيه ، فقد جاء عن ثلاثة من الصحابة :
*عن أبي هريرة في البخاري وأحمد وابن ماجة..
**وجاء عن أبي سعيد الخدري بنحوه عند أحمد والنسائي وابن ماجة.وهو صحيح.
ولفظه:" إن أحد جناحي الذباب سم و الآخر شفاء، فإذا وقع في الطعام، فامقلوه، فإنه يقدم السم، و يؤخر الشفاء" (السلسلة الصحيحة39)
*** وجاء عن أنس عند البزار بسند صحيح .صححه ابن حجر
-ومعلوم عند أهل العلم أنه كلما كثرت طرق الحديث كلما زادت قوته ،
-وعند جمع من أهل العلم أن الحديث المخرج في البخاري أو مسلم قطعي الثبوت ولو أتى بطرق قليلة.
كما قال السيوطي في ألفيته:
والحكم بالصحة والضعف على ظاهره
لا القطع إلا ما حوى كتاب مسلم أو الجُعفي سوى ما انتقدوا
وابن الصلاح رجّح قطعا به وكم إمامٍ جنحَ
فلا عبرة بقول من قال أن هذا الحديث مردود لأنه يخالف العقل ، ولأنه من أحاديث الآحاد
فهذا القول قليل القيمة ، وسبق الرد عليه .
الفائدة الثانية
المعنى العام للحديث
هذا الحديث يُثبِت أن في إحدى جناحي الذبابة داء وفي الثاني دواء، فإذا وقعت الذبابة في الإناء فإنها تدافع عن نفسها بأحد جناحيها الذي به الداء، فإذا انغمست كلها انغمس الجناح الثاني ونزل منه الشفاء فزالت الجراثيم أو الداء.
*لكن قد يتساءل المرء: كيف يجتمع الداء والدواء في شىء واحد وهو الذبابة ؟؟
الجواب: هذا ليس بغريب على قدرة الله ، وهذا ما أكدته الدراسات الطبية : فقد أثبتت وجود مادة تسمى "مبعد البكتيريا" في جسم الذبابة ،وهي تعمل على تحصين الذبابة وقتل كثير من الجراثيم ولولاه لماتت بسبب ما تحمل من جراثيم ضارة، فإن وقعت في الإناء ألقت الجراثيم الضارة ، فإن غمسناها فيه خرجت الجراثيم المضادة وقتلت الأُولى
(راجع كتاب الإعجاز العلمي في السنة النبوية للدكتور صالح ... والسلسلة الصحيحة للألباني لمزيد البحث في هذا الموضوع )
الفائدة الثالثة :قاعدة:ما لا نفس له سائلة لا تنجس بالموت
ذكر أكثر أهل العلم-كما قال ابن قدامة- أن الذباب وما يشبهه ( قلت :كالبعوض والنمل والعقرب والخنفساء والنحل والجراد...من الحشرات ) إذا وقع في إناء فمات فيه فإن الشراب أو الطعام لا يتنجس .
فالكائنات التي لا دم فيها يسيل، لا تُنجّس الماء الذي ماتت فيه .
ولخصوا هذا الحكم بقاعدة هي: "ما لا نفس له سائلة، لا ينجس بالموت".
والنفس هنا هي:الدم كما في القاموس، ومنه سُميت المرأة ُنفساء لخروج دمها.
سائلة :يعني تسيل .
*وأول من عبر عن القاعدة (ما لا نفس سائلة له..) هو إبراهيم النخعي ( أحد التابعين ) ثم أخذها عنه العلماء. (ذكره ابن القيم)
ونص قول النخعي : " كل نفس سائلة لا يتوضأ منها , ولكن رخص في الخنفساء والعقرب والجراد والجدجد إذا وقعن في الركاء فلا بأس به " . أخرجه الدارقطني والبيهقي
والجدجد :يشبه الجراد وقيل هو الصرصور.
الركاء : إناء صغير من جلد للشرب
**وذكر هذه القاعدة وأثبتها النووي في المجموع 181-1، والشوكاني في نيل الأوطار 68-1-
وكثير من العلماء
واستدلوا لهذه القاعدة بـ:
بما جاء في حديث الباب: " إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه، ثم لينزعه." فإنّ غمس الذباب في الإناء الذي قد يحتوي على شراب حار أو بارد يكون سببا في موته، ولو كان موته يُنجِسُهُ لما جوّز لنا النبي r شربه.
- ومن الأدلة على عدم تنجس الماء بموت ما لا نفس له سائلة فيه :أن الأصل في الأشياء الطهارة، ولا دليل على تنجس الإناء بموتها فيه.
- ومن الأدلة على عدم تنجس الماء بموت ما لا نفس له سائلة فيه أن
المشقة تجلب التيسير، لا يخفى أن سقوط الذباب في الإناء أمر يصعب التحرز عنه ، فإنها قد تسقط وتموت فيه فلو كان هذا منجسا ِلما في الإناء لحصل الحرج، وهو في الشريعة مدفوع .
تنبيه : إن للشافعي قولين في هذه المسألة:
الأول: إنها تُنجس الماء إذا كان قليلا-قياسا على غيرها من الميتات- .
الثاني: لا تنجسه.
وذكر بعض أهل العلم:أن الذباب الكثير إذا غير الماء فأنه يتنجس .(وهو رأي النووي في المجموع)..
والأقرب عدم تنجسه ولكنه بغيره يفقد صفته كماء.
تنبيه آخر: الصرصور بحسب هذه القاعدة طاهر لأنه لا نفس سائلة له، ولكن ينبغي أن يُتنبّه أن الذي يعيش منه في البواليع وبين النجاسات فهو أقرب للنجاسة من الطهارة . بخلاف الذي يعيش في غيرها(ذكر نحوه ابن قدامه في المغني)
تنبيه
ذكرنا أن القاعدة:"النفس سائلة ..." أول من جاء بها هو ابراهيم النخعي وهذا صحيح.
ولكن لقد جاءت في حديث ضعيف عندا الدارقطني والبيهقي وابن المنذر في الأوسط وأبي عبيد في كتاب الطهور، عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه: " يا سلمان كل طعام وشراب وقعت فيه دابة ليس لها دم، فماتت فيه، فهو حلال أكله وشربه ووضوؤه " – حديث ضعيف -، ضعفه الدار قطني والنووي والذهبي وغيرهم
*ولقد ذكر الحديث ابن القيم في كتابه الروح ،وهو خطأ منه، لأنه نفسه قال في زاد المعاد أن أول من عبر بها هو النخعي،
**ولهذا ذكر بعض أهل العلم –كالشيخ عبد المحسن العباد-في شرح سنن النسائي-كتاب الطهارة-
أن كتاب الروح لابن القيم من الكتب القديمة له . وأشار لهذا أيضا الشيخ الألباني في بعض أشرطته.
الفائدة الرابعة
ليس كل ما يستقذره الانسان أو يكرهه كراهية طبيعية يكون مكروها في الشرع أو محرما، ففي هذا الحديث غمس الذبابة في الإناء ورفعها منه ثم شربه وهذا أمر قد يستقذره البعض ومع ذلك فهو شراب مباح.
الفائدة الخامسة
هذا الحديث فيه دليل من دلائل نبوة محمدr حيث أخبر بهذا الأمر الذي لم يُعرف سرّه إلا المتأخرون من أهل الطب .